Connect with us

رأي

مستقبلنا نراه في كاميرات الصين!

لست خائفة من الصين، بل قلقة على أمريكا، فإذا واصلنا النوم في ظل نظام مراقبة ناعم وذكي، قد نستيقظ يومًا على وطن لم نعد نعرفه

عدتُ مؤخرًا من جولة في الصين، وفي كل محطة تقريبًا، كنت أسمع عبارة تتكرر بثقة: “لا تقلقي، لن يحدث شيء.. هناك الكثير من الكاميرات”. قالها لي مرشد سياحي حين تركت حقيبتي في دورة مياه عامة، وأعادها آخر عندما فقدتُ ابني لوهلة بين الزحام. بدا وكأن الجميع مؤمنون بأن الرقابة الشاملة تضمن الأمان الكامل.

على الأرض، كانت الكاميرات بالفعل تراقب من كل زاوية، من أعمدة الشوارع إلى مداخل المحطات، مرورًا بالأسواق والمراكز التجارية. لكنها لم تكن سوى الجزء الظاهر من منظومة ضخمة ومعقدة من التتبع والمراقبة باتت تحكم تفاصيل الحياة اليومية في الصين.

كنت أعيش في الصين عام 2013، ولم يكن ذلك الشعور بالأمان موجودًا حينها. لكن هذه المرة، شعرتُ أنني أرى لمحة من مستقبلنا نحن الأمريكيين، لا صورة غريبة عن عالم بعيد. الصين لا تبدو كاستثناء، بل نموذجا ناضجا لما قد نؤول إليه، إن تركنا الأمور تسير في هذا الاتجاه.

رقمنة شاملة

للعيش في الصين اليوم، عليك الاندماج في اقتصاد رقمي شامل، لا مجال فيه للنقود الورقية، وأحيانًا حتى لا تُقبل بطاقات الائتمان. اضطررت لربط بطاقتي بتطبيق WeChat الشهير، وهو “تطبيق فائق” يشمل كل شيء: من الرسائل والدفع إلى الخدمات الحكومية. وكل ذلك تحت عين الحكومة التي تملك حق الوصول إلى بيانات المستخدمين.

في كل لحظة، كان يمكن تتبعي، ولم أتمكن من إنفاق يوان واحد دون أن تُسجل حركتي. ورغم نظافة الشوارع وانضباط المرور، لم أستطع الفصل بين هذا النظام السلس وبين القمع السياسي الذي يجعله ممكنًا.

الحزب الشيوعي الصيني لا يكتفي بالمراقبة، بل يستخدم خوارزميات تنبؤية لمنع الجرائم والاحتجاجات قبل وقوعها. وقد أثبتت أزمة كورونا كيف يمكن تبرير هذه الإجراءات تحت راية “الصحة العامة”، مع فرض رموز QR تتبع تنقلات المواطنين ومنعهم من دخول الأماكن العامة.

على خطى الصين

قد يطمئننا الاعتقاد بأن أمريكا مختلفة، لكن الحقيقة أن الاختلاف يتضاءل.. صحيح أن النظام السياسي في الصين أكثر مركزية وقمعًا، لكن في أمريكا، تسير الأمور بخطى ثابتة نحو استنساخ هذا النموذج — ولكن بملامح محلية: تطبيقات منزلية، كاميرات أمنية، وسائل راحة ذكية، وكلها تُجمع بياناتنا بدقة. والأسوأ؟ أن هذه البيانات تُباع للحكومة من خلال وسطاء خاصين، دون علمنا أو موافقتنا.

وفي ظل إدارة ترامب الحالية، يُبدي البيت الأبيض حماسة غير مسبوقة للذكاء الاصطناعي، مدعومًا بتحالف غير شفاف مع عمالقة التكنولوجيا. تُستخدم الآن برامج متقدمة، من شركات مثل Palantir، لدمج قواعد بيانات متفرقة عن المواطنين في ملفات مركزية: من سجلات الهجرة إلى الحالة النفسية والمالية.

والأخطر أن المحكمة العليا سمحت مؤقتًا لوكالة تابعة للبيت الأبيض تُدعى “وزارة كفاءة الحكومة” بالوصول إلى بيانات الضمان الاجتماعي الحساسة، بدعوى محاربة الهدر الحكومي. لكن هذا يعني أن موظفين تابعين لجهة سياسية يمكنهم الإطلاع على أكثر المعلومات خصوصية: من ملفات العلاج النفسي إلى بيانات الحسابات المصرفية.. ولا وجود للشفافية.

قمع رقمي

إنه لمن المقلق أن يصبح الوصول إلى المعلومات الخاصة بالناس بهذا القدر من السهولة. بل إن بعض البرامج الأمنية، مثل “Police Cloud” في الصين، تستخدم الذكاء الاصطناعي لتحليل العلاقات الاجتماعية والأنماط السلوكية وتحديد الأشخاص “ذوي الأفكار المتطرفة”.

رغم اختلاف السياق السياسي، فإن البنية التحتية التقنية في أمريكا باتت جاهزة لفعل الشيء نفسه. جهات أمنية تستخدم بيانات تُجمع من تطبيقات الهواتف والسيارات وكاميرات المنازل، وتُمررها إلى برامج تنبؤية تُعطي لكل فرد “درجة تهديد” بناءً على نشاطه.

لقد حذرت منظمات مثل الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية من أن دمج قواعد البيانات بشكل موسّع دون رقابة حقيقية، يعني فتح الباب واسعًا أمام سوء الاستخدام: من التمييز في إنفاذ القانون إلى إساءة تصنيف الأبرياء.

حتى المدارس لم تسلم. تُستخدم خوارزميات لتحديد الطلاب المعرّضين لخطر التسرب، لكن معظم أولياء الأمور لا يعلمون أن بيانات أطفالهم تُخزن وتُحلل – وأحيانًا تُشارك مع الشرطة.

لا خصوصية

ما الذي حدث لفكرة الخصوصية في أمريكا؟ كيف تحوّل مفهوم “الحق في السرية” من قيمة دستورية إلى عقبة بيروقراطية؟

الجواب ربما نجده في الماضي. فحين أُقر قانون الخصوصية عام 1974، بعد فضيحة ووترغيت، شدد السيناتور سام إرفين على أن الخصوصية ليست ترفًا، بل شرط أساسي للحرية. وقال حينها: “عندما تعرف الحكومة كل أسرارنا، نقف عراة أمام السلطة”.

لكن اليوم، باتت ثقافتنا تتقبل الرقابة كأمر واقع — بل ومرغوب — بدعوى الراحة أو الأمان.

ورغم هذا الواقع القاتم، لا تزال هناك مقاومة. بعض الولايات، مثل مونتانا، بدأت بإغلاق “ثغرة الوسطاء”، مانعةً الحكومة من شراء بيانات الأفراد دون إذنهم. وهناك أكثر من 20 ولاية أقرّت قوانين لحماية البيانات الشخصية، وإن كان كثير من المدن واجه تحديات في تقييد استخدام تقنية التعرف على الوجوه.

لكن الخطر أكبر من مجرد قوانين. الخطر الحقيقي هو في غياب الوعي العام. فشركات التقنية التي تبني هذه البُنى التحتية لا تُعلن نواياها، والسياسيون لا يجدون حافزًا لمواجهتها طالما أن الناخبين صامتون.

في نهاية رحلتي، لم أخرج بخوف من الصين، بل بقلق على أمريكا. فإذا واصلنا النوم في ظل نظام مراقبة ناعم وذكي، فقد نستيقظ يومًا على وطن لم نعد نعرفه.

مترجم بتصرف عن مقال للكاتبة ميجان ك. ستاك بصحيفة نيويورك تايمز

Continue Reading
اضغط لكتابة تعليق

اترك تعليقاً

Your email address will not be published. Required fields are marked *

جميع حقوق النشر محفوظة، نوتشر 2020 - 2025 ©