«من لا يعرف كيف يزرع، لا يعرف كيف يعيش».. مثل إفريقي قديم من مالي، وتاريخيًّا عانت إفريقيا من ظروف مناخية صعبة كالارتفاع الكبير في درجات الحرارة وموجات الجفاف المتتالية.
لم يكن أمام الشعوب الإفريقية إلا أن تتعاون مع الطبيعة ولا تتحداها، من خلال تقنيات زراعية ابتكروها بأنفسهم، مثل الزراعة على المصاطب، وزراعة النباتات مترافقة بالحقول (الحقول المختلطة التي بها عديد من النباتات معًا في وقت واحد)، وانتقاء البذور المقاومة، والزراعة عبر تقنية بسيطة تُعرف بـ”زاي”.
تقنية زاي.. ما هي؟
“زاي” مصطلح يستخدمه المزارعون في شمال “بوركينا فاسو” للإشارة إلى تقنية للزراعة في حفر زراعة صغيرة، يتراوح عرضها عادةً بين 20 و30 سم، وعمقها بين 10 و20 سم، والمسافة بين كل منها بين 60 و80 سم.
في مناطق أخرى بإفريقيا مثل منطقة تاهوا بالنيجر، بدلًا من “زاي” تُستخدم كلمة “تاسا” بلغة الهوسا. تُملأ الحفر بالمادة العضوية المتحللة (روث حيواني مختلط بالبقايا النباتية من الحقل غالبًا ما يُطلق عليها الكمبوست)، والتي تُخلط بتربة الحفرة وتُزرع بالبذور.
يمكن لتلك الحفر الصغيرة “اصطياد” مياه الأمطار والحفاظ عليها من البخر والتسرب، ويمكنها الاحتفاظ بالرطوبة حول جذور النبات لفترات طويلة من العام، وتشجع عمل مليارات من ميكروبات التربة النافعة التي تمد النبات النامي بالعناصر الغذائية اللازمة له، فضلًا عن الإنزيمات والهرمونات والفيتامينات المنشطة والمشجعة لعمل الجذور بطريقة طبيعية.
ومن جهة أخرى، تكون هذه بيئة طبيعية وجيدة لبعض حيوانات التربة كالنمل الأبيض للقيام بوظائفه الطبيعية في تقليب التربة، وإعادة تدوير العناصر بها، وفي النهاية حصاد المحصول بأمان رغم كل الظروف الصعبة غير المواتية.
سوادوغو.. بطل الأرض!
على مدار عصور ومع انتشار الكيماويات في الزراعة بدأت تقنية “زاي” تندثر، حيث بدأت في الابتعاد تمامًا عن المزارعين في بوركينا فاسو، ومع تزايد موجات الجفاف والتصحر هجر كثير من المزارعين قراهم إلى مناطق أخرى، وتزايدت حالات الفقر خاصة في السبعينيات من القرن الماضي.
لكن مزارعًا بوركينيًا يُدعى “ياكوبا سوادوغو” عندما كان صغيرًا سمع نقاشًا بين عدد من حكماء قريته حول تلك التقنية التي ترجع جذورها إلى مزارعي القبائل المورية في بوركينا فاسو منذ قرون، والذين كانوا يحفرون حُفرًا صغيرة في التربة لحصاد مياه الأمطار.
▐ياكوبا سوادوغو
“سوادوغو” سرعان ما استعاد القصة وبدأ يسأل المزارعين من كبار السن المحيطين به من أقاربه وأهل قريته عن “زاي”، وبمساعدتهم قام ببعض التجارب وطور الحفر بوضع كميات من المادة العضوية المتاحة في منطقته، والمفاجأة أن التقنية تنجح مرة تلو الأخرى بمزيد من التجارب.
بدأ “ياكوبا” يزرع بانتظام بواسطة “زاي”، وبدأ إنتاجه يزيد بما يحقق الاكتفاء الذاتي لأسرته من الدخن والذرة والقمح والخضر، وحتى أشجار الفاكهة. وسرعان ما قلّده مزارعون آخرون في قريته ونجح في إنقاذ ما يزيد على 25 هكتارًا كانت قد تدهورت بشكل كبير.
وبدأت الفكرة في الانتشار من قريته إلى قرى أخرى، وأُطلق عليه “الرجل الذي قهر التصحر”، وفي عام 2018 تم منحه لقب “بطل الأرض” من الأمم المتحدة، وصار رمزًا إفريقيًّا مهمًا في الابتكار الزراعي.
البداية من بوركينا فاسو!
في المؤتمر الدولي الزراعي السنوي عام 2011، الذي نظمته المفوضية الأوروبية للمساعدات الإنسانية، تحدث “ياكوبا” عن تقنية “زاي”، وأشار إلى أنها تحسّن من كفاءة الاستفادة من مياه الأمطار وحماية التربة، فضلًا عن زيادة إنتاجية المحاصيل وخاصة الغذائية بدرجة تتجاوز ثلاثة أضعاف.
من بوركينا فاسو، انتقلت “الزاي” إلى 12 دولة إفريقية أخرى مثل مالي، والنيجر، وتشاد، والسنغال، والكاميرون، ومناطق من السودان وإثيوبيا… إلخ.
▐صورة نشرتها “نيويورك تايمز” لـ”ياكوبا سوادوغو” في 2021
وترى المنظمات الدولية المهمة مثل منظمة الأغذية والزراعة (FAO) والمعهد الدولي للبيئة والتنمية (IIED) أن تقنية “الزاي” لا يمكن اعتبارها فقط وسيلة للزراعة، بل منظومة لاستعادة الحياة في الأراضي الميتة، تحسن خصوبة التربة تدريجيًّا وتعمل على مضاعفة إنتاجية المحاصيل (خصوصًا الدخن والذرة الرفيعة).
وتُظهر التجارب أن اعتماد “الزاي” يمكن أن يرفع الأمن الغذائي للأسر الريفية بنسبة تتجاوز 40% في المناطق الجافة، كما تحدّ من فقد المياه بنسبة تتعدى 60%، وتعمل على زيادة عزل الكربون في التربة من خلال إعادة إحياء الغطاء النباتي، مما يسهم في التخفيف من آثار تغير المناخ.
ومع التقدم التكنولوجي وتزايد استخدام الرقمنة والذكاء الاصطناعي في الزراعة، أصبحت اليوم تقنية “زاي” تُدمج مع تقنيات حديثة مثل الخرائط الطبوغرافية والطائرات المسيرة وأجهزة قياس رطوبة التربة لتحديد أماكن الحفر المثلى.
وحتى اليوم لا يزال تطوير تقنية “زاي” قائمًا، ففي بوركينا فاسو يجري باحثون من المعهد الوطني للبحوث الزراعية تجارب حول إمكانية الزراعة المختلطة لمحاصيل الحبوب مثل الذرة الرفيعة والدخن مع البقوليات في نفس وحدة “زاي” للاستفادة من قدرة البقوليات على تثبيت الأزوت الجوي، وبالتالي زيادة توفر النيتروجين للنبات بنسبة تتراوح بين 15 و25%.
مزايا عديدة وعيب وحيد!
ورغم المزايا العظيمة لتقنية “زاي”، إلا أنه يُعاب عليها احتياجها إلى جهد بدني كبير وأيام طويلة تصل إلى ثلاثة أشهر لتجهيز هكتار واحد عبر عامل زراعي واحد، بسبب عدم توافر الميكنة أو ارتفاع ثمن المادة العضوية.
وقد نجحت بعض المناطق الإفريقية، بدعم من الحكومة أو المنظمات المدنية، في توفير بعض معدات الحفر الخفيفة، ومساعدة المزارعين على زراعة الأشجار والمحاصيل العلفية المتحملة للملوحة والجفاف.
من جهة أخرى، قام مزارعون مبدعون بتطوير بعض معدات الحفر محليًّا، وآخرون في السنغال استبدلوا الحفر بالإطارات المعاد تدويرها وملؤها بالمواد العضوية وتجهيزها كحصادات للأمطار، ونجحوا في زراعة الخضروات الطازجة بها.
ولعل من قصص النجاح الجميلة ما فعلته الكاميرون، التي استوردت الفكرة من بوركينا فاسو لإصلاح تدهور الأراضي حول “منتزه بينويه الوطني”، الذي تم إنشاؤه عام 1932، وأصبح منتزهًا وطنيًا عام 1968، وصُنّف كمحمية للمحيط الحيوي عام 1981 لحماية النظم البيئية المتنوعة والحياة البرية في المنطقة.
تجربة للتعميم
وتبنت منظمة تُدعى “فودر” تدريب المزارعين عبر تقنية “زاي” من خلال مزرعة خاصة أنشأتها لهذا الغرض، ونجحت المنظمة في رفع إنتاجية الأرض للمزارعين حوالي ثلاث مرات مع المحاصيل المهمة مثل الذرة.
فبعدما كان يحصد المزارعون 10 أكياس من الذرة للهكتار الواحد باستخدام السماد الكيماوي والطرق المعتادة، أصبحوا يحصدون 30 كيسًا باتباع منظومة “زاي”.
ونجحت “فودر” في تحويل 300 هكتار من الأراضي المحيطة بمنتزه بينويه الوطني باستخدام تقنية “زاي” وسماد الكمبوست خلال ثلاث سنوات.
وللتغلب على مشاكل “زاي” كارتفاع كلفتها وزيادة الجهد البدني مما يعيق الناس عن التحول إليها، نظمت “فودر” المزارعين في تعاونية، ووفرت معدات الحفر والحصول على المواد العضوية.
وأخيرًا، إذا نظرنا إلى تقنية “زاي” من خلال الأمن الغذائي والتكيف مع تغير المناخ، فتُعد التقنية رمزًا للابتكار المحلي القائم على المعرفة التقليدية، وهي بديل مستدام سهل التطبيق يمكن محاكاته في العديد من بلدان العالم التي تتعرض لمشكلات الجفاف وتملّح الأرض وغيرها من آثار تغير المناخ، وهي نموذج جديد وملهم للزراعة التجديدية، حيث يمكن من خلالها استعادة خصوبة التربة والحياة بها.
د. خالد غانم، كاتب وأستاذ جامعي مصري، مهتم بالابتكار في التراث الزراعي لتقديم حلول فعالة في الزراعة التجديدية والأمن الغذائي وتغير المناخ، عضو رابطة الإعلاميين العلميين العرب