نشأة الإنترنت عالميًا عُرفت تاريخيًا بأنها امتداد طبيعي للعولمة، فقد أتاح الربط الشبكي الجديد اتصالًا لحظيًا، ما عزّز التجارة الدولية وتبادل الثقافة.
وكما هو الحال في الاقتصاد العالمي، كانت الولايات المتحدة اللاعب الأكثر تأثيرًا على الشبكة، إذ لم تصدّر التكنولوجيا فحسب، بل الثقافة والمعايير السياسية أيضًا.
لكن قصة أخرى كانت تُكتب بالتوازي، تجسدها الصين، فقد اختارت بكين منذ البداية بناء إنترنت موازٍ: حدّت من وجود الشركات الغربية، وأحكمت قبضتها على شبكاتها الداخلية، وشيّدت اقتصادًا رقمياً خاصًا بها.
وعلى عكس السرد الغربي الذي اعتبر تلك الاستراتيجية مجرد انعزال وسيطرة، فإن تأثير الإنترنت الصيني وشركاته -حتى هنا في الغرب مع صعود تيك توك- بات ضخمًا في عام 2025.
سيادة رقمية
في هذا السياق، ومع تجدد الحرب التجارية الأمريكية، لم يعد مفاجئًا أن دولًا أكثر بدأت تعيد التفكير في مفهوم “السيادة الرقمية”، وأن الإنترنت الذي عرفناه يتفكك تدريجيًا.
على سبيل المثال: روسيا، التي لها تاريخ طويل في الرقابة الإلكترونية ودعم شركات تكنولوجية موالية للدولة، اتخذت خطوة لافتة عبر تعطيل الوصول -ليس فقط إلى واتساب- بل أيضًا تليجرام، وهو التطبيق الذي أسّسه بافيل دوروف، مبتكر VK النسخة الروسية من فيسبوك، والذي غادر البلاد قبل أكثر من عقد.
جاء هذا التضييق بالتزامن مع إطلاق MAX، التطبيق الوطني الشامل الجديد، المشابه لتجربة Weixin الصينية، مصحوبًا بحملة دعائية ضخمة.
تقول نيويورك تايمز: “لافتات الإعلانات تملأ الشوارع. المدارس توصي به. المشاهير يتقاضون أموالًا للترويج له. والهواتف تأتي مُحمّلة به مسبقًا”.
ورغم الوضع الدبلوماسي الفريد لروسيا حاليًا، فإن حجتها “نريد منصات إنترنت كبرى خاصة بنا وسيطرة أكبر على ما يحدث داخلها” باتت تُسمع في أماكن كثيرة من العالم.
حتى الولايات المتحدة طبّقت منطقًا مشابهًا في صفقة تيك توك، وإن بشكل دفاعي.
تطبيق خارق
أما في الهند، فتتجه الحكومة علنًا لدعم التطبيقات المحلية لأسباب اقتصادية وأمنية، وتتفاخر بإطلاق “التطبيق الخارق” الهندي، وحول ذلك يقول وزير التجارة بيّوش غويال: “لا شيء يضاهي شعور استخدام منتج سوادشي محلي الصنع.. فخور لاستخدامي Arattai، تطبيق المراسلة الهندي”.
في العقد الأول من الألفية، دارت معارك العولمة الرقمية حول محركات البحث والمواقع الشهيرة، وفي العقد الثاني، انصبت المعارك على شبكات التواصل الاجتماعي، أما اليوم، فالمعركة حول تطبيقات المراسلة، وهي تختلف في طبيعتها عن كل ما سبق.
جزء كبير من التواصل اليوم يجري عبر تطبيقات خاصة ومشفّرة مثل واتساب، الأكثر شعبية في الهند وسوقه الأكبر عالميًا، وبفضل التشفير الافتراضي، تجد الحكومات صعوبة في مراقبة ما يجري داخل هذه التطبيقات.
نموذج الصين
لكن Weixin الصينية، المعروفة عالميًا بـ WeChat، تقدم نموذجين مغريين للحكومات: فهي خاضعة لرقابة الدولة، وفي الوقت نفسه تحولت إلى بوابة موحدة للتسوّق والمصارف والإعلام والخدمات الحكومية.
هذا “التطبيق الشامل”، الذي طالما حلم به التنفيذيون الأمريكيون وآخرهم إيلون ماسك، يجذب الحكومات بسبب قدرته على مركزة كل شيء، وهذا ما تريده روسيا مع MAX: المراسلة، المكالمات، الهوية الرقمية، ربط الخدمات الحكومية، حجز المواعيد الطبية، الواجبات المدرسية، والتواصل مع السلطات المحلية.
لكن تفكك الإنترنت إلى منظومات مراسلة وطنية أو قومية أو حتى مخترقة يضع الحكومات الأقل حماسة للمراقبة في موقف صعب، ففي الاتحاد الأوروبي، تتقدم مبادرة “رقابة الدردشة” المثيرة للجدل، والتي تفرض على شركات التكنولوجيا فحص الرسائل بحثًا عن محتوى يتعلق بالإساءة إلى الأطفال.
قبضة مُحكمة
وهذه الخطوة تواجه معارضة شعبية وشركاتية واسعة، نظرًا لأنها تمس جوهر خصوصية المستخدمين، ومع أن الأوروبيين يبررونها بحماية الأطفال، فإنها من زاوية أخرى تذكّرنا بالمطالب الصينية الثقيلة التي منعت الشركات الأمريكية من دخول سوقها في العقد الماضي.
في المحصلة، يبدو أننا أمام تحوّل عالمي جوهري: الانترنت لم يعد يُنظر إليه كمشروع عالمي بطبيعته، بل كأداة قوة داخلية يجب امتلاكها، وحمايتها.. والحماية منها!.
مترجم بتصرف عن مقال للكاتب جون هيرمان في نيويوريك مجازين