رأي
الفورموليشن.. وإعادة تشكيل التربة!
العلماء ابتكروا طريقة لحماية البكتيريا من ضغوط شديدة تنتظرها عند نزولها التربة، وهي توفير بيئة آمنة وحامية لها
المركبات الحيوية، مثل اللقاحات والمبيدات الميكروبية وغيرها من المواد الحيوية المستخدمة في نظم الزراعة المستدامة، تعاني من مشاكل كثيرة عند استخدامها في التربة تؤدي إلى موت أو انخفاض فعاليتها، وبالتالي تفقد الهدف المستخدمة لأجله، فضلًا عن خسائر اقتصادية كبيرة تتكبدها الزراعات.
من تلك المشاكل: تغيرات المناخ وآثارها مثل الملوحة والجفاف وارتفاع درجات الحرارة، المنافسة مع الميكروبات المتوطنة بالتربة، ارتفاع أو انخفاض درجة حموضة التربة، الاستخدام المفرط للكيماويات الزراعية.
العلماء ابتكروا طريقة لحماية البكتيريا من ضغوط شديدة تنتظرها عند نزولها التربة، وهي توفير بيئة آمنة وحامية لها مثل غلاف أو كبسولة، مكونة من مواد معينة تحافظ عليها وتسمح لها بالبقاء والعمل بكفاءة لأقصى وقت ممكن (مأوى آمن للبكتيريا المستخدمة).
الفورموليشن.. ما هي؟
اصطلح على تسمية تلك الطريقة بتقنية الفورموليشن، والتي يمكن تعريفها على أنها تكنولوجيا زراعية مطوّرة تهدف إلى تحويل أي مادة حيوية (بكتيريا – فطريات – أحماض أمينية – مواد عضوية – محفزات جذور – مستخلصات طبيعية) إلى صيغة Formulation مجهّزة خصيصًا لتحسين بقائها وفعاليتها داخل التربة، وبمعنى آخر هي طريقة لتجهيز المادة الحيوية وحمايتها وتوصيلها وتحريرها في التربة.
ومن أهم المواد المستخدمة في تغليف البكتيريا: الزيولايت – البنتونايت – البيوشار – بودرة التلك – الدياتوميت – بوليمرات طبيعية (ألجينات – نشا معدل).
أهميتها:
- التحكم في الإطلاق Controlled Release، فعلى سبيل المثال تخيّل لقاح رايزوبيا يخرج بالتدريج مع رطوبة التربة، وليس دفعة واحدة، فهذا يرفع الفعالية 3-5 أضعاف.
- رفع العمر التخزيني Shelf-life، فاللقاح يمكنه البقاء صالحًا لمدة من عام إلى عام ونصف وربما أكثر، في حين أن اللقاحات التقليدية عمرها من 3 إلى 6 أشهر فقط.
- زيادة الالتصاق بالجذور عبر خلق ملمس يسمح للبكتيريا أن تلتصق بالشعيرات الجذرية دون أن تجرفها مياه الري أو المطر.
تعديل رايزوسفير الجذور عبر ما تحمله التركيبة من مادة كربونية (مصدر كربون)، يمكن للميكروبات داخلها استخدامها ببطء، وكذلك مادة محبة للرطوبة وضابطة لرقم الحموضة، فضلًا عن أخرى محفزة لنمو الميكروبات، وفي النهاية خلق ظروف معيشية أفضل للمواد المستخدمة.
وتناسب التقنية معظم الميكروبات المستخدمة كلقاحات حيوية أو في المكافحة مثل: بكتيريا الرايزوبيا – الباسلس بأنواعها المختلفة – البكتيريا الزرقاء – فطريات الميكوريزا – فطريات الترايكودرما – المواد الحيوية المحتوية على عديد من الميكروبات مثل الفيرمي كمبوست – فراس BSF بعد تعديل بعض خواصه.
نماذج من العالم
أنتجت شركة نوفوزيمز الدنماركية -وهي من أهم الشركات العالمية في إنتاج الميكروبات- لقاحًا اسمه «تاج تيم»، يجمع بين الرايزوبيا والبنسليوم بيلاي، من الطمي المحسن مع مادة لاصقة.
من مزايا تلك التقنية أنها توفر طبقة حماية ضد الملوحة والتحكم في إطلاق العناصر، واستُخدمت في تجارب تطبيقية في كندا وأمريكا على فول الصويا والحمص، وأشارت نتائج تلك الدراسات إلى زيادة المحصول من 8-12%.
من المعروف أن الرايزوبيا هي أقدم اللقاحات النيتروجينية والتي تتكافل بشكل متخصص مع النباتات البقولية، والنوع المتكافل مع فول الصويا من جنس Rhizobium japonicum.
أما البنسليوم بيلاي فيعمل على إذابة الفوسفور من التربة وإتاحته للنبات عبر إفراز أحماض عضوية تعمل على خفض pH التربة، وهو فعال في التربة المصرية مرتفعة رقم الحموضة، ويستطيع العمل بشكل تآزري مع الرايزوبيا، ومهم في الزراعة العضوية خاصة مع فول الصويا لأهميته كمحصول متعدد الأغراض غذائية وعلفية.
كما أنتجت شركة رايزوباكتر الأرجنتينية لقاحًا من الرايزوبيا Rizoliq LLI، تمّت حماية البكتيريا بمواد بوليمرية طبيعية مع حامل من الزيولايت ومواد مثبتة pH (تقنية Long Life Inoculant).
الميزة الرئيسة في هذا اللقاح أنه يمكنه البقاء صالحًا في عبواته لمدة تتعدى 18 شهرًا، وهي مدة صلاحية غير مسبوقة عالميًا.
المركز العالمي لأبحاث المناطق القاحلة بالهند (ICRISAT) قام بتطوير أجيال من لقاحات Bacillus megaterium وPseudomonas في صورة Granules من البنتونايت مضاف إليها دبس كمصدر كربون، وتُخلط مع بيوشار محمَّض لتحرير الفوسفات، وتُستخدم الآن على نطاق واسع في ولايات راجستان ومهاراشترا.
ومما يجدر الإشارة إليه أن Bacillus megaterium من أهم الميكروبات المستخدمة في إنتاج اللقاحات الفسفورية الميسرة للفوسفور في مصر بمركز البحوث الزراعية، وتمتلك مصر سلالات محلية فعالة للغاية.
وفي اليابان قامت مؤسسة JICA بتطوير تكنولوجيا الكبسلة Microencapsulation مع الميكوريزا، واستخدمت الطحالب البنية كمصدر للألجينات لصنع كبسولات ميكورايزا محمية بالألجينات.
وتمتاز التقنية اليابانية بأنها ذات إطلاق بطيء وتحتفظ بالرطوبة حولها، وقد نُقلت التقنية إلى فيتنام وتايلاند وبروناي، وتُستخدم حاليًا في محاصيل الأرز والشاي.
جامعة فلوريدا في الولايات المتحدة الأمريكية أيضًا جهزت مستحضرات من بكتيريا Bacillus لمكافحة Pythium، وتم استخدام نشا معدل كمادة رابطة وبودرة تالك كمادة حاملة للبكتيريا وطبقات من السيليكا كحماية UV، كما طُبقت التقنية حقليًا بالمشاتل لحماية شتلات الخضر من أعفان الجذور.
وهناك مشروع NASA-CSA الكندي: Formulation للبكتيريا المثبتة للنيتروجين على الزيولايت، وفي تجارب زراعة الفضاء، استخدموا زيولايت عالي المسامية كمخزن للماء وبكتيريا مثبتة للنيتروجين Azospirillum.
كما تم الحصول على غلاف بوليمري من هيدروجيل، ومن مزايا تلك التقنية الإطلاق البطيء للرطوبة والمواد الغذائية، وقد استُخدمت التقنية بعد نجاحها في البيوت الزراعية (الصوبات) في شمال كندا.
وفي الصين طورت الأكاديمية الصينية للعلوم تقنية لزيادة توافر الفوسفات في أراضي Loess Plateau عبر تصنيع كبسولات من Bacillus mucilaginosus وخليط من بيوشار محمَّض وبودرة صخر الفوسفات ومادة لاصقة من البروتين النباتي، ويُضغط الخليط في أقراص Tablets.
وقد تم التطبيق الفعلي على مساحات تتجاوز 200 ألف هكتار بوضع الكبسولات بجوار الجذور.
نماذج عربية
في المنطقة العربية هناك عدد من الأمثلة لتقنية Formulation Technology in Soil:
- منظمة الإيكاردا في المغرب جهزت لقاحات من الميكورايزا والرايزوبيا مع البنتونايت، وتُستخدم في مشاريع استصلاح الأراضي الهامشية في المغرب.
- دائرة الزراعة في أبوظبي استخدمت Bacillus مع بيوشار محمض لتحسين الأراضي الرملية بالصحراء.
- كلية الزراعة جامعة عين شمس صنعت لقاحات من البكتيريا المذيبة للفوسفور مع البيوشار المحمض والطفلة وبودر صخر الفوسفات.
في المملكة العربية السعودية، المركز الوطني للزراعة العضوية قام بدراسة لاختبار مركب حيوي مصنّع من عدد من الميكروبات عبر تقنية الفورموليشن على آفة العنكبوت الأحمر ذو البقعتين، وكانت نسبة القضاء على الآفة 84%.
وأعادوا نسبة النجاح المرتفعة إلى التركيبة الحاملة للميكروب وليس الميكروب نفسه فقط، ولم يُفصح عن تلك التركيبة أو الميكروب حيث إن التجارب ما زالت تحت التطوير.
وهنا يبرز سؤال مهم.. هل تقنية الفورموليشن تقنية جديدة علينا في مصر؟
في الواقع هناك دراسات قديمة عليها في كثير من المواقع العلمية المهمة مثل معهد الأراضي والمياه والبيئة وصندوق الموازنة الزراعية ومركز الثروة الميكروبية بجامعة عين شمس ومركز بحوث الصحراء وغيرها.
ومنها تغطية التقاوي بالميكروبات المتخصصة كما هو الحال مع بكتيريا الرايزوبيا، ولكن هناك محددات تعوق هذا؛ أولها ضعف التمويل – وعدم المعرفة الزراعية لاختفاء الإرشاد الزراعي – وسيادة الزراعة الصناعية على حساب الزراعة العضوية وغيرها، وهو ما نأمل في التغلب عليه في الفترة القادمة مع تنامي الاهتمام العالمي والمحلي بالزراعة المستدامة لما لها من آثار جيدة على صحة الناس والبيئة والتربة.
د. خالد غانم – أستاذ الزراعة العضوية بجامعة الأزهر
– شغل منصب رئيس قسم البيئة والزراعة الحيوية بجامعة الأزهر لمدة 10 سنوات
– مؤسس عديد من المشروعات والمبادرات الناجحة في البيئة والزراعة المستدامة ومجابهة تغير المناخ والغذاء
– مؤسس والرئيس التنفيذي لمشروع جاسوب 2 مصر، وهو مشروع لإعادة إنتاج المعرفة الزراعية يدمج بين المعرفة التقليدية والتراثية بالمعرفة الزراعية الحديثة والذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا المعلومات في الزراعة التجديدية.
