Connect with us

رأي

هامبرتو.. الموسِيقِي الذي ألهم الفلاحين!

يتكلم هامبرتو عن البذور ككائنات حية، وكان يقول: «البذور مثل الموسيقى، لا تنمو إلا عندما يسمعها الناس»

قبل الاستعمار الإسباني لأمريكا اللاتينية، كانت كوبا من البلدان المطيرة، تربتها خصبة ويعيش سكانها حياة كريمة، نظرا لتنوع مصادر الغذاء الطبيعية.

في أواخر القرن الثامن عشر، عمل الاستعمار الإسباني على تحويل كوبا إلى مزرعة كبرى لقصب السكر، وللعمل في الأرض أحضروا عبيدا من إفريقيا، وآخرين من إسبانيا للعمل بمصانع السكر.

وفي 31 ديسمبر 1958، تحررت كوبا بعد انتصار الثورة التي قادها كاسترو على باتيستا، وبعد معاداة الولايات المتحدة الأمريكية للثورة الكوبية، اتجه كاسترو إلى الاتحاد السوفيتي، وطبقت كوبا النظام الاشتراكي.

حقبة المحصول الواحد

في ظل هذا النظام، احتفظت كوبا بالنهج الزراعي القائم على زراعة محصول واحد هو قصب السكر في أكثر من نصف أرضها، وصناعة السكر وتصديره إلى مختلف دول العالم، وهو ما يعرف بالزراعة الأحادية (نوع من الزراعة له تأثيرات مدمرة للتربة على المدى الطويل).

نتيجة لهذا احتضن الإتحاد السوفيتي كوبا ومدها بكل ما تحتاجه تقريبا من طاقة وغذاء وآلات زراعية ومبيدات وأسمدة كيماوية وغيرها، ولأكثر من 30 عامًا، شكّل الاتحاد السوفيتي الشريك التجاري الرئيسي لكوبا.

مع انهيار الاتحاد السوفيتي في العام 1991، فقدت كوبا شريكها التجاري الرئيسي، وتوقفت الإمدادات السوفيتية، نتج عن ذلك أزمة نقص حاد في الغذاء.

حاولت الحكومة الكوبية حل أزمة الغذاء ولم تستطع، وكادت تدخل في مجاعات، وكالعادة جاء حل جديد وغير متوقع من الناس.

زراعة في كل مكان

مُزارع حضري في هافانا غير معروف، أقام نموذجا لمزرعة حضرية صغيرة جدا على عدد محدود من الأمتار، تعتمد على تدوير مخلفات المنزل، وزرع عددا متنوعا من الخضر التي يحتاجها منزله، بعد أسابيع قلده عدد محدود من سكان هافانا، وسرعان ما تحولت إلى مبادرة.

التقطت الحكومة الكوبية الفكرة، وشجعت الناس على زراعة كل الأرض الفضاء وأسطح المنازل والشركات والمدارس والأبنية الحكومية الخ، وقدمت الحكومة تسهيلات للناس المشاركة بالمبادرة، مثل خصومات للطلاب من مصاريف الجامعة والسكن الطلابي، وإنشاء مراكز للتدريب على الزراعة الحضرية يقوم عليها متطوعون من أساتذة الجامعات والمراكز البحثية، إضافة إلى مراكز لإنتاج مستلزمات الإنتاج الزراعي بهافانا والمدن الكوبية.

تجاوز السنين العجاف

نجحت الفكرة وصارت المزارع الصغيرة تقدر بعشرات الآلاف، تشجعت الحكومة أكثر واتجهت بالتوازي إلى الريف، وعملت إصلاحا زراعيا يلائم المرحلة، حيث فككت المزارع الكبيرة إلى مزارع صغيرة لا تتعدى 10 أفدنة، وسلمتها إلى الأسر الفلاحية.

واعتمدت الحكومة على الثيران بديلا للطاقة في الأعمال الزراعية فكان 300 ألف ثور يعملون في الحقول، وأسست تحالفا مع التعاونيات الزراعية التي غيرت هي الأخرى من قناعاتها لتلائم المرحلة، وضمت إلى هذا التحالف المبادرين والمتطوعين فضلا عن الجامعات والمراكز البحثية، وفتحت المجال العام للإبداع لتخطي الكارثة.

بعد أعوام قليلة، نجحت كوبا في تخطي تلك المرحلة التي استمرت لعشر سنوات من 1991 إلى بداية العام 2001، وأطلق عليها “الفترة الخاصة”، وفي تطور لاحق نجحت كوبا في الوصول إلى قرابة 90% من احتياجاتها من الخضر فضلا عن الفاكهة والدواجن الخ، بعدما زرعت أكثر من 35 ألف هكتار مزارع حضرية داخل المدن وعلى حوافها.

بذور كالموسيقى!

تجربة كوبا أنتجت عشرات المبدعين من الأفراد والباحثين والأكاديميين وعدد من التعاونيات المبهرة وغيرها، ومن هؤلاء “هامبرتو ريوس لابرادا” وهو موسيقي حالم وباحث زراعي شاب وناشط في الزراعة العضوية والمستدامة، يعمل مع الفلاحين ويقيم لهم حفلات موسيقية بحقولهم، ويتحدث معهم بلغة مختلفة لم يعهدوها من قبل.

يتكلم هامبرتو عن البذور ككائنات حية، وكان يقول: “البذور مثل الموسيقى، لا تنمو إلا عندما يسمعها الناس”، وكان يفتتح بعض اللقاءات بأغنية شعبية من فلكلور الفلاحين الكوبيين.

آمن هامبرتو بإعطاء الفلاحين دورا نشطا، فالفلاح من وجهة نظره شريك في العلم وليس مستقبلا له، وأن البذور المحلية هي نواة للحرية الزراعية والسيادة على الغذاء.

استعادة البذور الأصلية

راقب هامبرتو المزارعين وهم يختبرون أنواعًا مختلفة من بذور محاصيل معينة، ويختارون البذور التي تنمو بشكل طبيعي في بيئة محددة، وفي كل موقع من هذه المواقع، فهم أن صغار المزارعين يمكنهم في نهضة زراعية أوسع نطاقًا وناشئة في كل كوبا.

وأدرك هامبرتو هذه التحولات الناشئة كفرص وحلول ممكنة لأزمة الغذاء والزراعة في كوبا، والتزم بتوسيع نطاق الزراعة المستدامة من خلال إقامة شراكات مع صغار المزارعين.

سعى هامبرتو وفريقه إلى تحفيز تجارب الفلاحين في زراعة البذور الكوبية الأصيلة من خلال مراكز التعليم الشعبية التي تم إنشاؤها بتعاون الحكومة والتعاونيات والمبادرين، وشجع المزارعين على مواصلة التجارب، وساعد في تنظيمهم لتعزيز التنوع الزراعي فيما بينهم، وتبادل معارفهم وأفضل ممارساتهم، فضلا عن بذورهم.

وقاد هامبرتو تنظيم “معارض البذور” في العديد من المجتمعات الزراعية في أنحاء كوبا، وهي تجمعات تتيح تبادل المعرفة والخبرات المتعلقة بالبذور والتنوع البيولوجي للمحاصيل بشكل منتظم، وقد نجح معهم في استعادة البذور الأصلية التي كانت شبه منقرضة.

قضي هامبرتو عشر سنوات في أعمال بحثية بالمعهد الوطني للعلوم الزراعية، كما واصل عمله مع المزارعين، استطاع خلالها تدريجيًا جذب انتباه صناع القرار الكوبيين والمجتمع الدولي إلى طريقته الفريدة ونجاحه مع الفلاحين في زراعة عشرات الأصناف من الفاصوليا والذرة والأرز وغيرها، وذلك بالطرق الطبيعية والممارسات العضوية دون كيماويات.

آلاف تحت مظلة المبادرة!

نجح هامبرتو في ضم أكثر من 50 ألف فلاح في تلك المبادرة، وتم تكليفه منسقا لبرنامج الابتكار الزراعي المحلي التابع للمعهد الوطني للعلوم الزراعية، ولا يزال يكرس وقته لتطوير قطاع الزراعة المستدامة في كوبا.

وقد شارك في مشاريع مماثلة للتنوع البيولوجي بقيادة المزارعين في جميع أنحاء المكسيك وبوليفيا، وكثيرًا ما يستخدم موسيقاه كوسيلة لإشراك المجتمعات في التنوع البيولوجي، حيث يؤدي أغاني تحتفي بالزراعة المستدامة.

وفي العام 2010 مُنح هامبرتو ريوس لابرادا جائزة “جولدمان البيئية” تقديرا لجهوده المميزة مجال التنوع البيولوجي والتنمية المستدامة للزراعة الكوبية واستعادته للعشرات من البذور الأصيلة التي كانت قد أوشكت على الإنقراض.

تجربة كوبا أصبحت اليوم مثالا عالميا على أن الإبداع المحلي قد يتفوق في كثير من الأحيان على السياسات المركزية، وأن الطريق إلى الأمن الغذائي يبدأ من الحقول الصغيرة وقلوب الناس.


د. خالد غانم – أستاذ الزراعة العضوية بجامعة الأزهر

– شغل منصب رئيس قسم البيئة والزراعة الحيوية بجامعة الأزهر لمدة 10 سنوات

– مؤسس عديد من المشروعات والمبادرات الناجحة في البيئة والزراعة المستدامة ومجابهة تغير المناخ والغذاء

– مؤسس والرئيس التنفيذي لمشروع جاسوب 2 مصر، وهو مشروع لإعادة إنتاج المعرفة الزراعية يدمج بين المعرفة التقليدية والتراثية بالمعرفة الزراعية الحديثة والذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا المعلومات في الزراعة التجديدية.

جميع حقوق النشر محفوظة، نوتشر 2020 - 2025 ©