هناك رجل مريب في قطار الساعة 9:12 المتجه إلى “لندن بريدج”، وهذا الرجل المريب هو أنا. أتجول بين المقاعد وأصوّر الركاب خلسة: رجل في منتصف العمر يشاهد مقاطع موسيقية، امرأة تضع مساحيق التجميل، ثنائي منغمس في حديث عميق.
كل لحظة أسجّلها: كل كلمة منطوقة، كل حركة على الشاشة، وحتى كل رمشة عين. لو أردت، يمكنني أن أبثّ ما ألتقطه مباشرة على الإنترنت دون أن يدرك أحد أنهم يتحولون إلى نجوم غير واعين في مقاطع الفيديو الخاصة بي.
السبب بسيط: الكاميرا مخبأة في نظارات “راي-بان ميتا” التي أرتديها، إشارة التسجيل الوحيدة ضوء أبيض صغير يومض في زاوية الإطار، لكنه لم يلفت انتباه أحد خلال أيام من التصوير المتزايد جرأة. نعم، الأمر مريب حقًا.
هذه النظارات، التي وُلدت من شراكة بين “ميتا” و”إسيلور لوكسوتيكا” منذ 2021، تحولت إلى منتج شعبي منذ إصدار نسختها الجديدة في أكتوبر 2023، إذ بيعت في أشهر قليلة أكثر مما حققته النسخة الأولى خلال عامين. وفي موسم الأعياد الماضي، كانت على قوائم الهدايا لدى الكثيرين.
ميزتها أنها ليست مميزة!
ما يميزها أنها لا تبدو “ذكية” بشكل لافت، فهي شبيهة إلى حد بعيد بنظارات “راي-بان” التقليدية، باستثناء بعض السماكة وقطع إلكترونية بالكاد تُرى. باختصار، تبدو غير مثيرة للريبة، وهذا سر نجاحها.
لكن خلف هذه البساطة، تكمن معضلة أعمق. النظارات مجهزة بكاميرا، ومكبرات صوت بتقنية التوصيل العظمي، ومساعد صوتي “Hey Meta”. يمكنها تنفيذ أوامر مثل إرسال صورة أو التعرف على ما أنظر إليه. وفي أثناء ذلك تجمع بيانات دقيقة: موقعي، ما أفعله، ومن أراقبه.
قد يكتفي معظم الناس باستخدامها كنظارة شمسية فاخرة بسماعات، لكن الاستخدامات الأخرى بدأت تكشف وجهها المظلم. صُنّاع محتوى في “تيك توك” استعملوها لتصوير نساء دون علمهن ونشر مقاطع “مغازلة” معهن، فيما استُخدمت في هجوم إرهابي للتجسس قبل التنفيذ. والأخطر أن طلابًا في هارفارد طوّروا نموذجًا للتعرف على الوجوه عبرها، قادرًا على كشف هوية أي شخص خلال ثوانٍ وربطها ببياناته الشخصية من الإنترنت، والسؤال هنا هل نحن مستعدون لعالم تُفضَح فيه بياناتنا “بنظرة واحدة”؟
خرق متعدد للخصوصية
أنصار الخصوصية يحذرون من أن الأمر يتجاوز فكرة التصوير دون إذن. هناك ثلاث مستويات: أولًا، انتهاك الخصوصية المباشر بالتصوير. ثانيًا، انتقال البيانات إلى “ميتا”. وثالثًا، إمكانية مشاركتها مع أطراف أخرى. كيف يمكن أن نمنح موافقة ونحن لا ندرك أصلًا أننا نصوَّر؟
أما الضوء الأبيض الصغير، فهناك بالفعل مقاطع على “يوتيوب” تشرح كيف يمكن إخفاؤه. الأمر إذًا ليس عائقًا حقيقيًا.
الناشطة البريطانية جينا مارتن، التي قادت حملة لتجريم تصوير ما تحت التنورة بعد تعرضها لحادث مماثل في مهرجان بلندن عام 2017، تقول: “هذه النظارات تجعل الجرائم الجنسية مثل التلصص أسهل بكثير. إنها خطوة مرعبة في انتهاك الخصوصية وعدم المساواة”.
حتى داخل البيت، تعلّم أطفالي سريعًا الحذر من هذا الجهاز. في اليوم الأول كانوا متحمسين للتكنولوجيا الجديدة، وفي اليوم الثاني صاروا يتأكدون من أن الضوء لا يومض قبل أن يجيبوا عن سؤال بسيط حول واجباتهم المدرسية.
قد نتعوّد يومًا ما على التحقق من الوميض الأبيض في وجوه أصدقائنا، وقد ندرك أن هذه التكنولوجيا لا مكان لها أصلًا على وجوهنا. فما حاجتنا فعلًا لتقنية تُحوّل كل نظرة بريئة إلى احتمال لانتهاك صارخ للخصوصية؟
مترجم بتصرف عن مقال للكاتب «مات رود» بصحيفة التايمز